[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري الكردي جان دوست
الكتابة مغامرة، وفي زمن الحرب تعتبر مغامرة مضاعفة. يتقمص الكاتب الروائي في زمن الحرب شخصية المؤرخ القديم أو لنكن أكثر دقة فالروائي في زمن الأحداث الكبرى مثل ذلك النقاش الذي كان يدون انتصارات الملوك والقادة وهزائم الأعداء. الفرق الوحيد هو أن الروائي المعاصر قد يؤرخ لهزيمته وهزيمة شعبه أيضًا. ليس الروائي المعاصر معنيًا بالنصر فقط. إنه يحكي الحياة وينقل نبضها ونبض نقيضها أيضًا إلى الورق. الكتابة في نظري ليست طوق نجاة بقدر ما هي حبل مشنقة في زمن الخراب العميم. لا أنظر للكتابة على أنها علاج فقط، بل قد تكون سببًا للجرح، قد تكون خنجرًا في الخاصرة. فأنا أشعر مثلًا وأنا أدون كارثة مدينتي كوباني أنني أنتحر. يؤلمني ما أكتب كما آلمني جدًا ما حدث. فأية نجاة ستأتينا بها الكتابة؟
إن الكتابة في زمن الحرب مهمة للغاية. الرواية تختلف عن عمل المؤرخ وإن كان التاريخ يتقاطع مع الرواية في كثير من مفاصله. الروائي يغوص في وحول الحدث بحثًا عن أسباب الحرب ونتائجها التي يتجاهلها المؤرخون. قد نقرأ كتابًا يرصد تاريخ الثورة السورية لكنه لن يكون بقوة وتأثير رواية تتكلم عن الثورة ذاتها. هنا تكمن أهمية الكتابة في اللحظة الراهنة: تدوين الحدث بروحه وجسمه، بألمه وفرحته، بمشاعر صانعيه والذين تأذوا منه. وليس بتدوين سلسلة الأحداث دون الغوص في التفاصيل. ولا بد أن تكون اللغة الآن بالغة الحساسية، شديدة التوتر متسمة بالإنصاف والانحياز للحق. فلا يمكن الحديث عن مذبحة الحولة مثلًا بلغة حيادية، لا يمكن الحديث عن قصف الغوطة بالكيماوي بلغة الرواية العادية، لا يمكن الحديث عن دمار كوباني عقب احتلال داعش لها إلا بلغة الألم. لا ينبغي للروائي أن يخاتل أو يناور، بل عليه أن يكون أكثر صدقًا في زمن الأحداث العظيمة التي يعيشها. إن الحرب حرب والكتابة عنها تتطلب لغة خاصة مميزة عمادها الإحساس الإنساني الصادق الرافض للموت وليس الممجد له.
الروائي بنَّاء قبل كل شيء. إنه معماري يتخذ من الكلمات لبنات لعمارة القصة، خياله الهندسي يعينه في ترتيب الأحداث وإعادة إعمار ما دمرته الحرب أو عجزت الذاكرة عن تدوينه. صحيح أن البلاد تتعرض الآن لأشرس هجمة وحشية عرفتها منطقتنا إلا أن بإمكان الروائي أن يعيد ما دمرته الحرب مثلًا في مدينته أو حارته اعتمادًا على ذاكرته وخياله. أنا أعرف كوباني شارعًا شارعًا، حيًا حيًا، وكثير من تلك الشوارع والأحياء بما فيها الحي الذي سكنتُ فيه مع عائلتي الكبيرة قد دمر تمامًا. وأنا مشغول الآن بإعادة بنائها روائيًا بعد أن تأخر إعادة إعمارها على الأرض. سأبني الحارة بيتًا بيتًا، بكل التفاصيل الصغيرة اعتمادًا على ذاكرتي أولًا وعلى الحنين الذي يحتفظ بالصورة الكاملة من غير نقصان.
لكن للأسف لا يمكن لشيء أن يرتقي إلى مستوى الإجرام التي تتعرض له البلاد من الجميع. لا يمكن للرواية إلا أن تنقل اللحظة بما فيها. إنني أعلم تمامًا أن آلاف الروايات بل عشرات الآلاف لا تكفي لوصف ما حصل. خذ مثلًا قصة المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، الأسرى الذين قتلوا، المدنيون الذين قضوا في المذابح وتحت الأنقاض. كل شخص من هؤلاء رواية لن يكتبها أحد وستبقى قصص كثيرة مدفونة مع أصحابها.
بالنسبة لمن يقول إن الأدب الجيد لا يُكتب في الأوقات الصعبة، أستطيع الرد بأن هؤلاء ينظرون إلى الأدب كأنه وصفة طبية ينبغي تناولها في أوقات محددة. الكتابة فيض مشاعر وتراكم أحاسيس قبل كل شيء. حتى الرواية التي تتطلب شغلًا دقيقًا نستطيع كتابتها في زمن الحرب حيث الحدثان الروائي والواقعي لم ينتهيا بعد. المهم هو كيف يشتغل الروائي، كيف يتعامل مع الحدث؟ ما هي أدوات بنائه الروائي؟ ما هو مستوى فهمه للأحداث؟ الإبداع غير مرتبط بزمن معين. ولقد مضى زمن ذلك التصور الذي يحبس الرواية في تعريف جامع مانع. أنا أرى العكس/ أرى أن الكتابة في اللحظة الراهنة عن الحدث أكثر صدقًا وتعبيرًا من كتابة تتأخر عن الحدث. لا يمكن بعد أن تنقشع الغيوم وتهدأ العاصفة أن تتخيل مدى الرعب الذي أصاب ركاب السفينة. إن لم تكتب وأنت تسمع نداء الاستغاثة من السفينة الموشكة على الغرق فليس مجديًا أن تبكي بعد خمسين عامًا على ركاب سفينة غرقت في عرض البحر والتهمت الحيتان لحومهم.
*************
جان دوست في سطور:
جان دوست شاعر وقاص وروائي ومترجم سوري كردي، من مواليد عام 1965 في بلدة عين العرب (كوباني) بمحافظة حلب السورية. وهو يقدم نفسه لنا بالقول: "أنا مواطن كردي سوري هربت من هجير الوطن إلى ظلال المنفى. عشت خمسة عشر عامًا أصحو كل يوم من حلم العودة مرة أخرى. ولما ظننت أنني أصبحت قادرًا على العودة اختفى الوطن واختفت مدينتي التي ولدت وعشت فيها سنين طويلة. ولدت في كوباني (عين العرب) عام 1965 ودرست فيها حتى التحقت بجامعة حلب كلية العلوم. تركتها في السنة الثالثة ومذاك لا عمل لي سوى الكتابة. عام 2000 هاجرت إلى المانيا التي أقيم فيها وأتمتع بجنسيتها".
ويعد جان دوست واحدًا من أهم المثقفين الكرد المعاصرين، وله عدة دواوين شعر وروايات بالكردية والعربية وترجمات وبحوث عديدة. حصل على جوائز هامة منها: جائزة القصة الكردية القصيرة في سوريا 1993، وجائزة الشعر عن مهرجان الشعر الكردي في ألمانيا 2012، وجائزة الكتاب الشرقي عن ترجمته لقصص كردية في كتاب بعنوان رماد النجوم 2013.
كما حصل في آذار/ مارس 2013 على جائزة "دمشق للفكر والإبداع" التي أعلنتها مجلة "دمشق" الصادرة في لندن، عن كتابه "رماد النجوم"، وهو عبارة عن مجموعة قصص كردية قصيرة لعدد من الكتاب الكرد. وفي العام 2014 وخلال مهرجان " گلاويز "، الذي يقام سنويًا في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، حصل على جائزة "حسين عارف".
ومن أشهر ترجماته، ترجمته لـ"مم وزين"، التي تعد أشهر قصص الحب في التراث الكردي.
صدر له من الروايات باللغتين اكردية والعربية:
- "مدينة الضباب"، واسمها بالكردية (Mijabad)، ترجمها جان دوست بنفسه إلى العربية، صدرت في عدة طبعات، آخرها عن دار مقام، القاهرة 2014.
- "ثلاث خطوات ومشنقة"، باللغة الكردية، الطبعة الأولى دار "آفستا" للنشر ، استنبول 2007. والطبعة الثانية عن نفس الدار عام 2012.
- "ميرمانة"، باللغة الكردية. الطبعة الأولى دار "آفستا" للنشر ، استنبول 2008. الطبعة الثانية عن نفس الدار عام 2012. وقد ترجمت هذه الرواية إلى اللغة العربية من قبل "مشروع كلمة للترجمة"، التابع لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث في الإمارات العربية المتحدة بعنوان: "ميرمانة – الشاعر والأمير، كما ترجمت إلى اللغة التركية من قبل محسن قيزيلقايا عام 2011. كما ترجمها صباح إسماعيل إلى اللغة السورانية ونشرتها دار أنديشة في السليمانية عام 2013.
- "مارتين السعيد"، باللغة الكردية. الطبعة الأولى دار "آفستا" للنشر ، استنبول 2012. وقد نقلها مؤلفها إلى اللغة العربية، وصدرت عن "مشروع كلمة للترجمة"، التابع لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث في الإمارات العربية المتحدة في 2015. ويعتبر النقاد أن هذه الرواية من أهم الروايات المعاصرة في المشهد الادبي الراهن التي تتحدث بصورة ابداعية فنية عن التطرف والارهاب اللذان انتشرا كثيرًا في الآونة الأخيرة، ونعيش باثرهما مأساة الحروب والكوارث وصراع العقائد والمذاهب والأديان.
- "عشيق المترجم"، دار ورق، دبي - الإمارات العربية المتحدة 2014. وتعتبر هذه الرواية أول عمل يكتبه "دوست" باللغة العربية.
- "دم على المئذنة"، دار مقام للنشر والتوزيع، القاهرة 2014.
ومؤخرًا صدرت روايته "نواقيس روما" عن دار الساقي في بيروت. والتي رشحتها الدار لجائزة الإبداع العربي، وكذلك لجائزة معرض الشارقة الدولي في مجال الرواية.